التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في ذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه في عاشوراء المحرم 61هـ، الكثير من العبر والدروس التي تتعلمها الأمة في مسيرتها الحضارية
من المفارقات ذات الدلالة في تاريخ البشرية اجتماع ذكرى نجاة موسى عليه السلام مع استشهاد الحسين رضي الله عنه في يوم واحد يوم عاشوراء؛ لتكتمل لنا سنة ربانية في تأييد الله لعباده المؤمنين.
فقد لا يكون نصر الحق وأهله على الأعداء بهزيمتهم والغنيمة منهم، بل أحيانًا يكون النصر عليهم بهلاكهم وكفاية شرهم، كما نجَّا الله موسى من فرعون، وكما نصر نبيه صلى الله عليه وسلم في الأحزاب.
وقد يكون ذلك النصر بنيل الشهادة في سبيل الله عز وجل: "فما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء! فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت، سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه! والجنة كسب، كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك! ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله. ينتصر-إذا انتصر- لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه. ويستشهد -إذا استشهد- في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة" {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. وذلك النوع من الفوز هو ما ناله الحسين بن علي عليه السلام.
إن صفحة الحسين رضي الله عنه صفحة لا تماثلها صفحة، في توضيح الفارق بين أهل الضمائر ومن لا ضمائر لهم، بين من يسعى للحق ويثور له، ومن يسعى لمصالحه الدنيوية ولو على أشلاء الدماء البرئية، وقد كان الحسين وصحبه -كما قال ابن العربي- ممن هبَّ "غضبا للدين وقياما بالحق"، وانتهت ثورته بفاجعة كربلاء في العاشر من المحرم 61هـ.
ثورة الحسين رضي الله عنه
وفي البدء، فإن أصل ثورة الحسين رضي الله عنه صراع بين مفهوم الشرعية السياسية القائمة على العدل والشورى، ومفهوم السلطة المتغلبة القائمة على الجبر والقهر، وهي المتمثلة -في نظر الحسين- في يزيد بن معاوية غفر الله له.
وقد وصل الحسين بن علي إلى قناعة راسخة وبنى قراره السياسي على فتوى اقتنع بها في مقاومته للحكم الأموي، فهو يرى أن بني أمية لم يلتزموا حدود الله في الحكم، وخالفوا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين. كما شجعه على القيام بحركته وجود مؤيدين له لاسيما في العراق، إذ كاتبته جموع كثيرة وطلبوا منه القدوم عليهم لنصرته، وكان الحسين قد أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة لاستطلاع حجم التأييد له فيها، فاطمأن إلى كثرة المؤيدين وكتب له في ذلك، لكن استطاع عبيد الله بن زياد والي الكوفة بأساليبه المخابراتية اختراق تنظيم مسلم بن عقيل، حتى تمكن من قتله وصلبه، بعد أن تخاذل عن نصرته أهل العراق، وهو ويقول: "اللهم أحكم بيننا وبين قومٍ غرونا وخذلونا".
وقد مكث الحسين بن علي في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق، فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة 60هـ، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة 60هـ، في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة، وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره، ويقول: "بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد، وابتليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد".
ومقابل ذلك اتخذ عبيد الله بن زياد بعضًا من الإجراءات الصارمة، كان لها أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل وعلى أبشع صوره، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، وما اقترب الحسين من العراق حتى وصلته أخبار مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، فأعلم الحسين من معه بذلك، وقال: "من أحب أن ينصرف فلينصرف"، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، ولم يبق معه إلا القليل.
مأساة كربلاء واستشهاد الحسين
ولما وصل الحسين إلى كربلاء، قال: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالُوا: كَرْبَلَاءُ. قَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ. ثم أدركته خيل عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد حيش ابن زياد، ومعه شمر بن ذي الجوشن والحصين بن تميم، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل، فجرت مفاوضات بين الطرفين، عرض فيها الحسين رضي الله عنه عرضه المتمثل في واحدة من ثلاث نقاط.
قال ابن كثير: "وَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يُقَاتِلُهُمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا عُمَرُ; اخْتَرْ مِنِّي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ تَتْرُكَنِي أَرْجِعُ كَمَا جِئْتُ، فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى يَزِيدَ فَأَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ، فَيَحْكُمَ فِيَّ مَا رَأَى، فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى التُّرْكِ فَأُقَاتِلَهُمْ حَتَّى أَمُوتَ"، وقد أكد الحسين رضي الله عنه موافقته للذهاب إلى يزيد غفر الله له.
غير أن ابن زياد رفض ذلك العرض، وطلب أن يأتيه الحسين أسيرًا، وكتب لعمر بن سعد: "أمَّا بعد، إنِّى لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله، وتكفَّ عنه، ولا لتمنِّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له شافعا عندي. انظر: إن نزل الحسين وأصحابه على حكمى واستسلموا، فابعث بهم، وإن أبوا، فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثل بهم، فإنّهم لذلك مستحقُّون"، فلما وصل الخبر إلى الحسين رضي الله عنه رفض الطلب وقال: "أَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ ابْنِ الْفَاعِلَةِ لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ". ثم تأهب الطرفان للقتال، وكان مع الحسين اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، في حين يبلغ جيش أعدائه أكثر من أربعة آلاف.
وفي العاشر من المحرم سنة 61هـ كانت المعركة التي انتهت بالفجيعة الكبرى التي أدمت قلوب المسملين وهيجت مشاعرهم في كل مكان، حيث استشهد الحسين رضي الله عنه، وقُُتل مع الحسين رضي الله عنه 72 رجلاً، وقُُتل من أصحاب عمر 88 رجلاً، وبعد إنتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد بسوء، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد.
وكتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى، وقال: "قَدْ كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، لعن اللَّه ابن سمية! أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم اللَّه الْحُسَيْن!".
انتقام الله من قتلة الحسين
وذلك لا يعفي يزيد بن معاوية من مسئولية قتل الحسين رضي الله عنه، فمسئوليته قائمة، كيف لا!، وقد قُتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه، وسيظل استشهاد الحسين وصمة عار في عهد يزيد معاوية، ولعنة سوداء في تاريخ الدولة الأموية.
وقد انتقم الله للحسين رضي الله عنه من قاتليه وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وكل من شارك في قتله لم يَسلم، أما عبيد الله بن زياد، فقال ابن عبد البر في الاستيعاب: "وقضى الله عز وجل أن قُتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة 67هـ، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزبير، فبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين".
وأما يزيد بن معاوية فلم يدم حكمه بعدها أربع سنين، وأما الباقي، فقال ابن كثير: "وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ الْأُمُورِ وَالْفِتَنِ الَّتِي أَصَابَتْ مَنْ قَتَلَهُ فَأَكْثَرُهَا صَحِيحٌ; فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أُصِيبَ بِمَرَضٍ، وَأَكْثَرُهُمْ أَصَابَهُ الْجُنُونُ". وهكذا كان مصرع الحسين عليه السلام هو الداء القاتل الذي سكن في جثمان الدولة الأموية حتى قضى عليها، فقُتل الأمويون أحياءً، وحُرِّقوا أمواتًا.
ثورة الحسين ثورة باقية
وإذا كانت ثورة الحسين رضي الله عنه قد انتهت بقتله، فإن ذكراه خلدها التاريخ؛ لتظل شعاعًا يستضيء به المطالبون بالحق والمضحون من أجله في كل زمان ومكان.
ولتعلن أن المبادئ لا تموت بقتل أصحابها، بل تحيا في القلوب وتتناقلها الأيام حتى يكتب لها النصر والتمكين.
ولتعلن كذلك أن الفوز الحقيقي هو الموت دون الحق والدين، وقد قالها حرام بن ملحان من قبل –وقد طُعن: "فزت ورب الكعبة"، وهي في الكتاب محفوظة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
ولتعلن كذلك أنه إذا كان لدى جلاَّدي الماضي مهلة أحيانا يستمتعون فيها بثمرات إجرامهم بضعَ سنين، فإن عمْق وعْي الشعوب بحقوقها اليوم، وتسارُعَ حركة التاريخ في عصرنا، لا يُمهلان الجلاَّدين كثيرا.
ولتعلن كذلك أن الله يمهل ولا يهمل، وأن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وأن من قُتل مظلومًا، فالله كفيل برد حقه، إنْ آجلًا وإنْ عاجلًا، {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84]، فيا ويل من يعد الله عليه ذنوبه وأعماله وأنفاسه، ويتتبعها ليحاسبه الحساب العسير!!
ولتعلن كذلك أن انتصار الحق وأهله ليس مرهونًا بهلاك الطغاة والانتقام من الظالمين، بل الانتصار الحقيقي هو الصبر والثبات حتى يأتي أمر الله وهم صامدون، وهو ما ربَّى الله تعالى عليه نبيه والمسلمين من بعده، فقال: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 41- 44].
المصادر والمراجع:
- الطبري: تاريخ الرسل والملوك، الناشر: دار التراث – بيروت، الطبعة: الثانية - 1387 هـ.
- أبو العرب الإفريقي: المحن، تحقيق: عمر سليمان العقيلي، الناشر: دار العلوم - الرياض - السعودية
الطبعة: الأولى، 1404هـ - 1984م.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999م.
- ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997م.
- عباس محمود العقاد: الحسين أبو الشهداء، دار الكتاب اللبناني – بيروت، الطبعة: الأولى 1974م.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، الناشر: دار الشروق - بيروت- القاهرة، الطبعة: السابعة عشر - 1412 هـ.
- علي الصلابي: الدولة الأموية.. عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، الناشر: مؤسسة اقرأ – مصر، الطبعة الأولى: 1426هـ - 2005م.
- محمد بن المختار الشنقيطي:من كربلاء إلى رابعة .. حرب الجلادين والشهداء.
التعليقات
إرسال تعليقك